اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
السة 5011 مارس 2022 - 2 برمهات 1738 ش     العدد كـــ PDFالعدد 9-10

اخر عدد

حرف "الراء" اللعين

قداسة البابا تواضروس الثانى

11 مارس 2022 - 2 برمهات 1738 ش

كل لغة من لغات العالم فيها عدد من الحروف تُسمّى "الأبجدية"، ومن هذه الحروف تتكوّن الكلمات ثم الجُمَل ثم العبارات، حتى تصير اللغة نوعًا من الهوية المُعبِّرة عمّنْ يتكلم بها. والكلمات في اللغة العربية تتكون من عدد من الحروف أقلّها حرفان. مثل كلمة "حب" وهي كلمة غالية في القاموس العربي وذات الصلة الكبيرة بحياة الإنسان وعمله وأسرته ونشاطه بصفة عامة. وقالوا عن هذه الكلمة التي تتكون من حرفين "ح"، "ب" إنهما يرمزان إلى معانٍ كثيرة أهمها أن الحاء تعني "حياة"، والباء تعني "بقاء"، وبالتالي تصير كلمة "حب" تعني "حياة وبقاء" أو "بقاء الحياة"، وبالحقيقة فإن بقاء الحياة الإنسانية لا يكون إلّا بالحب، وحتى في اللغة الإنجليزية فإن كلمة حب أو محبة Love تبدأ بنفس الحرف التي تبدأ به الحياة Life.

ويُعتبَر الحب هو مفتاح قلب الإنسان، وهو العاطفة الأولى والمستمرة في حياته، وأن الله الخالق العظيم عندما أراد أن يخلص الإنسان من سقطاته وخطاياه، تجسد وتأنس من أجل خلاصنا كما هو مكتوب «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (إنجيل يوحنا 3: 16)، فكان الحب هو الدافع عند الله وراء خلقته ووجوده على الأرض.

وإذا بحثنا في الوجود الإنساني بكل أبعاده وتاريخه الطويل سنجد أن "الحب" هو محور الحياة، سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الجماعات والشعوب والأمم. بمعنى آخر إن الحياة تدور حول "الحب" في كل نشاط، فأنت تدرس المادة العلمية وتجتهد فيها لأنك تحبها، وتترك دراسة معينة أو عملًا معينًا لأنك لا تحبه، وتكوّن أسرة عندما تجد شخصًا تميل إليه وتحبه، وهكذا في الخدمة والعمل والسفر والتكريس والأسرة... إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من الأنشطة الإنسانية العديدة. ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن الإنسان المسيحي ودوره في منظومة الحياة: "أيّ مصباح بلا نور؟ وأيّ مسيحي بلا حب؟". وفي تقاليد الحياة الرهبانية يعلمنا الآباء: "حبّ الكل وابتعد عن الكل" باعتبار العزلة الإيجابية أحد أركان سلامة حياة الراهب.

وكذلك في حياة الفضيلة نجد "فضيلة اتساع القلب بالحب للكل"، ولا ننسى أنشودة القديس بولس في الأصحاح 13 من رسالته الأولى إلى أهل مدينة كورنثوس عن المحبة وصفاتها وعظمتها حتى أنه قال إن: «اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا»، وهو بذلك يقرّر حقيقة إنسانية خالدة.

ورغم أن الله صانع الخيرات، قَصَد كل خير للإنسان في الطبيعة والخليقة، وأعطاه حبه في العطايا العظيمة كالهواء والماء والشمس من باب العناية الإلهية لكل البشر، إلّا أن الإنسان الذي فسد بالخطية وسمح لنفسه أن يبتعد عن الله ويعبد ذاته وعقله ومزاجه، وانحصر في أنانيته وأطماعه ورغباته كما رأينا في بدايات تاريخ الخليقة، وتعدّى قايين على أخيه هابيل وقتله وصار معلونًا من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيه من يده (تكوين 4: 11).

وهكذا اخترق حرف "الراء" تلك الكلمات الجميلة "حب" فقسمها وطرحها أرضًا، وتحولت إلى "حرب"، وضاعت الحياة وضاع البقاء وانكسر الحب، وسادت الكراهية التي جعلت الإنسان يحارب الإنسان تحت مسمّيات ومبرّرات عديدة كما نشهد في التاريخ الإنساني.

وكما نقرأ عن ويلات الحروب العالمية الأولى والثانية في القرن العشرين، وكيف راح ضحيتهما ملايين وملايين من معظم الشعوب والدول، وفقد الإنسان عقله وحكمته، وأخذه غرور القوة فاستخدم القنابل النووية التي سقطت على مدن يابانية بالدمار والخراب ودون أن يجني الإنسان شيئًا.. وها نحن نشهد بداية حرب واسعة جديدة تتورّط فيها القوى العظمى التي تملك أسلحة الدمار الشامل، وكأن الإنسان بالحقيقة فقد عقله ولا يعي تمامًا نتائج الحروب وآثارها على الجميع نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وروحيًا، وخسائرها المادية واللا مادية.

وتُعتبر الحروب جزءًا من الدراما التي تزج فيها الإنسانية نفسها، وعالم الكتاب المقدس -وعبر التاريخ الإنساني- يشهد لهذه الدراما وما فيها من قتل وعنف ودمار، رغم أن قصد الله للإنسان أن يكون في سلام.

إن الحرب في أساسها شرٌّ، وهي لن تختفي من الدنيا تمامًا إلّا حينما تكون الخطية ذاتها قد اختفت، ولكن العالم الشرير، عالم الخطية، إنما يقع تحت قضاء الدينونة الإلهية. وتسجل الحروب علامات الدينونة المقبلة «وَسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وَأخْبَارِ حُرُبٍ. اُنْظُرُوا، لاَ تَرْتَاعُوا. لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أنْ تَكُونَ هذِهِ كُلٌهَا، وَلكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْد» (متى 24: 6).

إننا نأسف كثيرًا لهذه الحرب الجديدة التي تدور رحاها بين بلاد صديقة لبلادنا، وبلاد شهدت تقدمًا في ميادين شتى، بلاد عرفت معاني السلام بعد عصور من الضيقات والاضطهاد والحروب والدمار. إننا نأسف لإنسان القرن الحادي والعشرين، الذي بعد أن ذاق مرارة الوباء العالمي الذي ظهر منذ عامين وراح ضحيته خمسة ملايين من البشر وأكثر من خمسمائة مليون مصاب به، نراه يدخل في حرب تمتد من المواجهات العنيفة واللا إنسانية إلى العقوبات العديدة والتوترات وانهيار الاقتصاد وغياب الهدوء والسلام بين الشعوب والسقوط في قاع الكراهية والأنانية والطمع..

إننا نصلي من أعماق قلوبنا أن يرجع قادة تلك الدول إلى رشدهم ولا يفقدوا إنسانيتهم، ويسرعوا إلى حفظ سلام الإنسان وحياته كما قصدها الله، ويعرفوا أن جنون العظمة والرغبة في الانتقام مهما تجبّرت فإنها تنتهي إلى التراب عندما يموت الإنسان ويفقد كل شيء ويواجه مصيره المحتوم ويقف أمام الديان العادل الذي سيعطي كل واحد حسب أعماله، ومكتوب «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعوْنَ» (متى 5: 9).




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx